في أيام المراهقة، حيث كانت البساطة سمتنا، كنت أحفظ عن ظهر قلب طريقة إعلان فيصل القاسم عن حلقات برنامجه، ثم توقفت تقريبا عن متابعة “الاتجاه المعاكس”، إلا أن تلك النزعة الجدلية قد عاودتني اليوم وأنا أراقب المشهد الإعلامي لحزب الإنصاف.
لنجرب الأمر الآن، ونحن نحاول الكتابة عن عزوف مثقفي حزب الإنصاف عن الدفاع عن إنجازات النظام، خصوصا حين تزامنت أزمة العطش والظلام مع احتفالات النظام بذكرى تنصيب فخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني!
لماذا يغيب مثقفو حزب الإنصاف عن الدفاع الإعلامي عن منجزات نظامهم؟
وهل يُعقل أن حزبا يحكم دولة كاملة لا يجد من بين صفوفه أساتذة جامعيين وصحفيين وخبراء يخرجون في برنامج تلفزيوني واحد ليقولوا جملة مفيدة تنحاز لما تحقق؟
البعض يقول إنهم يترفعون عن “الماركيتينغ السياسي”، ولكن أليس في هذا التبرير شيء من التواطؤ؟
في المقابل، ألا يفضل النظام أصواتا أكثر طواعية، أقل علما ، لكنها أكثر صراخا؟
ببساطة، ألا يبحث “الإنصافيون” عن من يردد، لا عن من يتأمل؟ عن صوت لا عقل؟
الجواب، في الحقيقة، لا يتعلق بندرة الكفاءات، بل بفائض من الحرج !
ليس لأن المنجز معدوم بالضرورة، بل لأن ما يُطلب من المثقف في هذه اللحظة ليس الشهادة، بل التجميل، والمثقف الحقيقي، بطبعه، لا يجيد التجميل، ولا يطيق الكذب النبيل.
في حزب الإنصاف، كما في كل أحزاب السلطة في عالمنا الثالث، يوجد مثقفون – لا شك في ذلك – لكن وجودهم أشبه بقطع الأثاث الأنيقة داخل بيت لا يفتح أبوابه إلا في مناسبات نادرة.
إنهم هناك، في الظل، يعرفون التفاصيل، يدركون حجم الفراغ، ويفهمون خطورة الصمت، لكنهم، رغم ذلك، يفضلون الصمت ، لأنهم يدركون أن من يطلب منهم الدفاع لا يطلب منهم الإقناع، بل التبرير.
غياب المثقف عن ساحة الدفاع عن النظام ليس خطأ عابرا، بل علامة على خلل بنيوي:
المثقف لا يجد نفسه في خطاب السلطة، والسلطة لا تثق في المثقف.
لكن محنة السؤال تشتد حين نضعه أمام مشهد موريتانيا اليوم:
عاصمة بكاملها تعاني العطش، أحياء تختنق في الظلام، ومع ذلك، لا أحد يخرج ليقول كلمة؛ لا من الحكومة، ولا من مثقفي حزبها.
أيعقل أن يحول العطش السلطة إلى ماكينة صماء، والمثقف إلى ظل باهت؟
أيُعقل أن يُترك المواطن وحيدًا في مواجهة العتمة، بينما يحتفظ مثقفو الحزب بأحاديثهم داخل صالونات مكيفة بمولدات الكهرباء الخاصة في تفرغ زينة؟
إننا في لحظة سياسية حرجة، لا تحتمل الخطاب الأجوف، ولا الغياب الذكي.
والمثقف الذي يلوذ بالصمت، شريك غير مباشر في تمديد الفساد!
أما النظام الذي يخشى النقد ويعادي الأسئلة، فسيظل يختار المدافعين عنه كما يختار وزراءه: من خارج الصندوق