في لحظة محورية من التحولات الجيوسياسية العالمية، تبرز القمة المتوقعة بين الرئيس الأمريكي السابق والمعاد اختياره دونالد ترامب وزعماء خمس دول إفريقية – من بينها موريتانيا والسنغال – كعلامة فارقة في خريطة التنافس الدولي على القارة السمراء. قمة لا يمكن قراءتها إلا في سياق مشروع أكبر يتمثل في محاولة “قطع الطريق” أمام النفوذ الصيني المتنامي، و”فك الحزام” الاقتصادي الذي باتت بكين تلفّ به القارة ضمن مبادرة “الحزام والطريق”.
إفريقيا: رقعة الشطرنج الجديدة
منذ بداية الألفية الجديدة، تحولت إفريقيا إلى مسرح مفتوح لتنافس عالمي محتدم، يتصدره من جهة العملاق الصيني، الذي أغرق القارة بالقروض والبنى التحتية، ومن جهة أخرى الولايات المتحدة التي تترنح بين فترات تراجع او تقدم حذر. وبين هذا وذاك، يجد القادة الأفارقة أنفسهم أمام واقع معقد: مغريات الصين، ومصالح الغرب، ومطالب الشعوب.
ترامب والعودة بوجه مختلف
عودة ترامب إلى الساحة الدولية ليست مجرد حدث سياسي أمريكي داخلي، بل هي نقطة ارتكاز لاستراتيجية خارجية ذات طابع “اقتصادي قومي”، تنظر إلى إفريقيا كفرصة سوقية وكخطر جيوسياسي في آن. القمة مع قادة إفريقيا لا تأتي فقط لتحسين صورة أمريكا في القارة، بل لتعطيل الاندفاع الصيني، وفتح بوابة استثمارات أمريكية مشروطة، لا تهدف فقط إلى التنمية، بل إلى إعادة تشكيل الولاءات الجيوسياسية.
منطق “قطع الطريق”
الولايات المتحدة، بقيادة ترامب، تسعى بوضوح إلى “قطع الطريق” أمام التمدد الصيني. فبدلاً من إطلاق مشاريع ضخمة تنافس الصين على الأرض، تعتمد واشنطن على أدوات ناعمة – عقوبات، شروط تمويل، حوافز تجارية – لإعادة تموضع النفوذ الأمريكي في إفريقيا. إنها سياسة “الاحتواء الاستباقي”، عبر تقوية الشركاء التقليديين (مثل السنغال والمغرب وموريتانيا)، وتقديمهم كنماذج للاستقرار السياسي والانفتاح على واشنطن.
“فك الحزام”: بين الرمز والاستراتيجية
فك ارتباط الدول الإفريقية تدريجياً بالاعتماد الاقتصادي على الصين بات أولوية لدى المحافظين الأمريكيين. هذا ما يمكن تسميته بـ”فك الحزام”، في إشارة إلى محاولة فك التبعية الناتجة عن مبادرة “الحزام والطريق” الصينية. القروض الصينية تحولت في بعض البلدان إلى عبء استراتيجي، وجدت فيه واشنطن فرصة لإعادة التموقع، تحت شعار “التمويل المستدام” و”الاستثمارات الذكية”.
موريتانيا والسنغال في الواجهة
اختيار موريتانيا والسنغال كجزء من هذه القمة ليس عشوائيًا. فالأولى تمثل بوابة استراتيجية للصحراء الكبرى، ومنطقة الساحل الغنية بالموارد والمعقدة أمنيًا، بينما الثانية تمثل نموذجًا للاستقرار السياسي والانفتاح الاقتصادي. إنهما بمثابة “رأس الجسر” الذي تنوي الولايات المتحدة العبور منه إلى عمق إفريقيا، في لحظة تراجع جزئي للحضور الفرنسي.
الأبعاد الاستراتيجية: أمن، موارد، ورهانات سياسية
لا تغيب الأبعاد الأمنية عن هذا اللقاء. من مكافحة الإرهاب في الساحل، إلى مراقبة الممرات البحرية غرب القارة، تعيد واشنطن تشكيل أولوياتها. أما من ناحية الموارد، فالمعادن النادرة، والذهب، والنفط، تشكل دوافع اقتصادية لا يمكن إغفالها. سياسيًا، تسعى أمريكا لتكوين جبهة إفريقية مؤيدة في المحافل الدولية، مقابل الحضور الصيني والروسي المتنامي.
ما تطرحه القمة من وعود لا يخلو من محاذير. فهل نحن أمام شراكة حقيقية تقوم على المصالح المتبادلة، أم وصاية جديدة بأدوات أكثر نعومة؟ هل تنجح إفريقيا في استثمار الصراع بين الكبار لخدمة تنميتها؟ أم تعود لتكون مجرد هامش استراتيجي لمعارك لا تملك فيها القرار؟
يبقى الأكيد أن القارة أمام مفترق طرق، وأن القمة بين ترامب والدول الإفريقية ليست مجرد بروتوكول دبلوماسي، بل لحظة كشف حقيقية عن توجهات القوى العظمى ومصير العلاقات الدولية في عالم يعيد تشكيل نفسه.