لم يكنْ المُدرس الموريتاني يومًا مُجرد مُوظف حكومي يُؤدي خِدمة مُجتمعية مُبرمجة و مُحددة ، بل كان و لا يزال صاحب مِشعل ، و حامل رسالة ، وصانِعًا للوعي الجمعي والمُجتمعي.
إلا أن صاحب هذا الدور الكبير ظل لعقود طويلة يُعاني من التهميش ، ويُقابلْ بالجفاء، و كأن الدولة تعامله كرقم وظيفي لا صوت له ولا قيمة.
لكن شيئا ما تغير في السنوات الأخيرة، و تحديدا مع وصول فخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني للسلطة، ومع تولي الدكتورة هدى باباه حقيبة وزارة التربية وإصلاح النظام التعليمي، بدأ المدرس وللمرة الأولى ومنذ زمن بعيد يشعر أن هناك من يُصغي إليه بجدْ ، ويتعامل مع مطالبه لا بوصفها عبئًا أو مُزايدة بل حقًا يجب إعطائه ، وكرامة تنبغي حمايتها وصيانتها.
هناك الكثير من الشواهد على التحول النوعي في التعاطي مع الشأن التربوي ، ومن أبرزها ما جرى مؤخرا بخصوص دفع العلاوات ( علاوة البعد ، والطبشور ، والتأطير وغيرها ) فبعد سنوات كانتْ فيها العلاوات مصدر تذمرْ لا ينقطع بسبب تأخر صرفها ، أو خضوعها للبيروقراطية ، وضياعها في دهاليز الوزارة والمالية ، فُوجئ المدرسون بصرفها لمرتين مُتتاليتين وفي وقتها المُناسب دون صوت إحتجاج أو مُماطلة و لا وقفة إضراب تُقابلْ بتبرير غامض كما كان في الماضي،
وقد كان للوزيرة دور كبير في هذا التحول _ عكس من سبقوها_ لم تَتَعالَ على المدرسين وتتعامل معهم بوصفهم ” مُطَالِبينْ مُزْمِنِينْ ” بل كانت حريصة على فتح قنوات تواصل مُنتظمة مع النقابات والإستماع المُباشر لمطالبهم، والتفاعل الإيجابي معها في حدود ماتسمح به إمكانات الدولة ، دون تهرب أو وعود خاوية.
على الرغم من الإشارات الإيجابية المُشجعة فإن المدرسين لا يزالون في إنتظار خطوات أكثر جرأة في تحسين وضعهم المهني والمعيشي ، فالتقدير المعنوي _ على أهميته _ لا يمنع من تحسين فعلي للرواتب، وزيادة العلاوات، وإعادة النظر في آلية الترقية ، وتوسيع فُرص التكوين المستمر
ويظل ملف سكن المدرسين من أكثر الملفات التي تُلحْ عليها الأسرة التربوية، إذ يعتبر شرط مرور خمسة عشرة سنة من الخدمة للإستفادة من سكن المدرسين شرطا مُجحفًا وغير واقعي، خصوصا للمدرسين الميدانيين الشباب
إن مراجعة هذا الشرط وتبسيط إجراءات الإستفادة من السكن الوظيفي ضرورة مُلحة لجعل مهنة التعليم أكثر جاذبية و إستقطاب، ولضمان إستقرار المدرس النفسي والاجتماعي وهو ما ينعكس مباشرة على أدائه المهني والوظيفي.
إن ما يحدث الآن ليس مجرد صُدفة ظرفية بل يعكس تحولاً في عقل الدولة إتجاه ملف التعليم، وهو ما عبر عنه رئيس الجمهورية أكثر من مرة، حين أعتبر التعليم أولوية وطنية ، وشرطا لأي مشروع وطني جاد، وقد تأكد هذا الاهتمام بإطلاق خطة المدرسة الجمهورية ، ومحاولات إعادة الثقة والإعتبار للمدرسة العمومية، والحد من الفوارق الطبقية في الحق في التعليم وكلها مؤشرات_ إن أستمرت بنفس الجدية _ تُبشر بعودة الثقة و الروح لقطاع طالما كان مُحتضرا و محل إنتقاد وتشكيك من المواطنين.
خِتامًا ليس الجانب المادي وحده ما يبحث عنه المدرس و يطالب به ، و إن كان حقًا لا يُجادل فيه أو يؤخذ عليه ، ولكن المدرس يبحث أيضا عن المُعاملة اللائقة ، والإنصاتْ الجاد ، والحوار البناء ، والشعور بأنه ليس الحلقة الأضعف في نظام الدولة ، بل حلقتها الأقوى والأكثر رسوخا
وقد بدأ هذا الشعور يعود شيئا فشيئا من خلال إدارة أكثر إحتراما، وتفاعلا، وأكثر إنصافا وسلوك حكومي يُعطي للمدرس شيئًا من مكانته ومقامه الحقيقي
إن إحترام المدرس ليس مِنَة ، بل هو إستثمار في الوطن ، في وَعيه وفي مستقبله، و بداية النهوض أن تبدأ الدول بإكرام مُدرسيها لا بتهميشهم أو إفقارهم و إذلالهم…
حدام ولد برو
أستاذ تعليم ثانوي _ الفلسفة