“حين تكون الموارد نادرة فإن العلاقات السياسية تكون زائفة، لأنها تقوم على مراقبة تلك الموارد” جون واتربوي من كتاب أمير المؤمنين
لا يمكن الجزم بأن وتيرة الحياة السياسية في موريتانيا تسير بخطوات مُعقلنة، لا من الناحية الإيديولوجية، أحرى أن يكون هناك إطارا يحدها طبيعة، ويُجسد معانيها في عمق الحياة الاجتماعية بانسيابية تامة، ولعل مسألة “الندرة” وإدراجها كمفهوم جوهري لتحليل تلك الطبيعة التي تتزاحم في تشكلها القيم البدوية مع قيم المنفعة الجارفة، باتت أنجع خيار من أجل فهم فضاء بات يستقطب في تشكله الغث والسمين، بل وإنه وجهة لكل طامح وكل منتفع، عن طريق مقايضات تصب في صُلب المنفعة التي تفرضها الندرة.
وعلى الرغم من أن مسألة التحولات دخل السلطة في المجتمع الموريتاني جد عميقة، نظرا لعدة اعتبارات، لو تعالينا أو تجاوزنا المشكل العرقي الذي أثر على سلطة الدولة الحديثة في محاولات تحولاته المختلفة، فإن المسألة الاجتماعية كانت لها أيضا إملاءاتها وسياقتها التي حاولت في مختلف الجبهات الدفاع عنها داخل السلطة الحديثة التي همشت العصبيات وحاولت إلغائها في سبيل بناء نفسها، ذلك أنها لم تكن وليدة مخاض اجتماعي داخلي، وإنما هي نتيجة الاستجابة لمتغيرات أشبه ما تكون بعالمية، جراء انقضاء المستعمر وإحلال الدولة الإقليمية محله.
لقد اشتغل “كليفورد غيرتز” على مفهوم الإيديولوجيا، الذي وإن اعتبرناه ضروريا في سبيل تقليص مساحات “الندرة” والسعي إلى “الحظرة” بأي الطرق، معتبرا أنه جزء من الثقافة، ورغم اعتباره أن مصطلح العقيدة / الأيديولوجيا قد أصبح هو نفسه مؤدلجا بالكامل، فيما كان هذا المصطلح يعني مجموعة من الطروحات السياسية التي ربما تكون ذات طابع فكري نظري غير قابل للتصنيف ، بات الآن يعني حسب معجم ويستر “التأكيدات والنظريات والأهداف المتكاملة والتي تؤلف برنامجا سياسيا واجتماعيا غالبا من يكون متضمنا في معناها عنصر الدعاية المصطنعة غير الأصلية، إلا أن حدود السقف الوطني بخيارات مُنتجة على مستوى الوعي والفكر أنجع، من التفاوض مع واقع لا ينتج إلا التقسيمات التي تنتج الماضي وتعيق حركة الحاضر أكثر مما تُسهل تقدمها.
حاول واتربوري أن يفكك مفهوم الندرة إسقاطا على دول العالم الثالث كله، وإن كان أنموذج تحليل الحياة السياسية في المجتمع المغربي في سبعينيات القرن المنصرم هو الهدف، بالاعتماد على تقاطعات عدة قضايا أخرى جوهرية تتمثل في أن الأقوياء في هذه البلدان أقوى مما هم عليه في غيرهم، ودور الضعيف يتشكل من خلال بالحماية والمواجهة، حماية الناهبين من المُتميزين عنهم وما يترتب على تلك الحماية من ولاء وتمجيد، والمواجهة في سياق التنافس والحركة الاجتماعية، وفوق ذلك يعتبر واتربوري أن فئة الأقوياء نفسها هشة جدا، وهذا سلوك يبدو عاما في تشكل الحياة السياسية لمجتمعات العالم الثالث.
لكن ونحن نحاول وصف طبيعة النُخب من خلال مقارنة تشكلها وطبيعتها بنقص الموارد من جهة، وبالهشاشة الأفقية من جهة أخرى التي يتقاسم فيها السطح مع السقف، لابد من التعرج لمسألة المقايضة وما تحمل من توزيعات للسلطة وللثروة وللتميز، وما تشكل كذلك من أرضية يمكن أن تجعل مسألة المقايضة واضحة للعيان، وضوح تحكم السُلطة في النُخب، وتأثيرها في قرارهم وفاعليتهم على حد سواء، على اعتبار أنها تمثل أنجع بديل عن الندرة المُشكلة لطبيعة التعاطي السياسي في هذا الحيز.
ضف إلى ذلك ملامح التشكلات السياسية، وما تمتاز به هذه المجموعات التي بدأت تتشكل ملامحها عند ما أقرّت الإدارة الاستعمارية الفرنسية قانون تمثيل الأقاليم المسُتعمرة في البرلمان الفرنسي عام 1946م، فنشأ تبعا لذلك اتجاهان، اتجاه محافظ والآخر تقدمي يدعو الأخير إلى الاستقلال الفوري عن الاستعمار ومحاربة الطبقية، بينهما يدعو الأول إلى الوضع القائم في تلك الفترة مع تطور بطيء نحو الاستقلال، تجلت كل تلك المواقف في الأحزاب والتيارات السياسية والشبابية التي تأسست قبل الاستقلال والتي كانت تعتبر بمثابة إرهاصات بدائية لما ستقف عليه الدولة الحديثة من أفكار لها طابع عرقي وإثني وقومي حتى، مؤمنة بالاستقلال الداخلي أو بمطالب بالانضمام للمغرب ، وكانت تلك أهم الأفكار والمذاهب التي ميزت فترة التأسيس دون غيرها.
لقد كانت الظروف الزمنية التي استقلت فيها موريتانيا ظروف التحرر الدولي للدول المستعمرة نظرا لعوامل خارجية عدة ، لكن مسار تأسيس موريتانيا بالفعل بدأ منذ عام 1958 وهي الدولة الوحيدة العربية اللسان بين مجموعة أقطار إفريقيا السوداء، وهي أقطار كلها تفتقر إلى لغة رسمية ، فلا تجد بدا من اعتبار الفرنسية لغتها الرسمية، ورغم أن الحياة السياسية في ذلك الوقت لم تكن مؤطرة بوعي داخلي غير ما تتقاسم مع نظيراتها في العالم الثالث من أطماع التحرر ومجابهة الاستعمار، إلا أن الاتجاه الذي فرض نفسه هو الذي كان مدعوما من الإدارة الاستعمارية نفسها، مما حتم على النخبة الجينية بالهشاشة، وبالسلطة الاستعارية بالتحكم من خلال فرض خيارها.
إن تصرفات النُخبة التي باتت تواجه الأمر الواقع، وتسيّر نشاطاتها ضمن حيّزٍ دولاتي وليد مقيّدة بالانتماء إليه رغم أنها لم تتعاقد فيما بينها لتُنتجه، ظلت محكومة بتلك اللحظة، والتي تتمثل في غياب أيّ وعي بالدولة وظروف تأسيسها، وهو ما ظهر جليّا خلال فترة الحكم الشمولي الممتد من الاستقلال 1960 إلى تاريخ أول انقلاب في الوطن 1978، حيث كانت الحركات الإيديولوجية تسير ظروفها تماما كالسلطة وفقا لمبدأ الندرة، ليتحول الصراع من صراع من أجل تأسيس الدولة إلى صراع من أجل الاستئثار بالسلطة ولو على حساب الآخرين، ولقد قوّى ذلك التوجه فترتيْ الحكم الاستثنائي على ما ظهر فيه من صراع عميق كاد يذهب بشكل الدولة الوليد، بالإضافة إلى فترة الحكم المودمقرط وما نتج عنها من عودة إلى نفس التأثير القبلي، وهو منطلق يمكن أن يفسر انطلاقا من النفس الانقسامي تماما كما ذهب واتربوري إلى ذلك.
لقد تزاحمت في هذه الفترة للنخبة عدت اعتبارات جعلت فاعليتها تُقيد نظرا لغموض السياق المستجد واستحالة تطبيقه واقعا من جهة، ومن جهة أخرى نظرا لتغلغل الوعي القبلي وحضوره في المشهد، وبل وتأثيره في النخبة السياسية عموما، مما جعل التوجه نحو اعتماد الحزبية كمعيار انتماء وطني ينكسر على جدار الوعي القبلي والجهوي على حد سواء، ومن هنا بدأت الانقسامات أفقيا تتغلغل في جسم الدولة وتأثر سلبا وإيجابا في توجهات السُلطة واعتباراتها، فلا يمكن أن نحُدَّ الأحزاب ونخلق لها إطارا إيديولوجيا نظرا لتعدد الزعمات وتناقض أهدافها وإن كان المشترك هو الندرة، والرغبة في الاستئثار بالسلطة دون غيرها.
إن هذا الواقع هو ما دفع الأحزاب أن تزيد على المائة في سنة 2018، ورغم تقليصها بفضل القانون إلى بضع وعشرين بعد الانتخابات البلدية والتشريعة في تلك السنة، إلا أن طلبات التراخيص زادت وتفاقمت، مع تفاقم تأثير القبيلة والجهة والشريحة واستحكامهما في الخيارات الانتخابية دون أي مؤسسة حزبية أخرى.
ضف إلى ذلك في محاولة تحليل مسألة الندرة انطلاقا مما يعج به الواقع السوسيو- سياسي، أن التوجه إلى الدولة لم يكن وليدة فكرة أو قناعة، وإنما كان منطلقا من أزمة بحث عن “البديل” بعد أن ضرب الجفاف البلاد وصار لزاما على الذين انقضت ثروتهم جراء ذلك البحث عنها في حياة مدنية لم يؤهل لها أصلا، ولم تستعد سلطة الدولة الناشئة الغارقة في أزمات التأسيس حينها، والمفتقرة لنخبة تعي لحظتها ومستجداتها له، ليتداخل ذلك الواقع على ما فيه من هشاشة وتعقيد مع واقع الندرة، وتكون الرغبات العامة حبيسة لذلك.
إن تنظيم مجتمع تؤطر حياته السياسية والاقتصادية الندرة ولا يتحرك منها حسب إملاءات وإكراهات الرغبة في “الحظرة” المُطلقة تحتاج احتواء فكريا أولا، ثم انطلاقة واعية من سياق هذه أمثلة بسيطة من ملامح تعقيداته المُتشعبة، وإبصار سُلطة بينه وبينه هوة تتسع عبر مداءات التشكل إلى حد الساعة.!





