يعتبر الصراع جزءً من طبيعة المجتمعات البشرية، يظهر بين الدول أحيانًا وبين المكونات الاجتماعية داخل الدولة نفسها أحيانًا أخرى، و في منطقتنا، شهدت علاقاتنا بالدول المجاورة توترات عرقية وصراعات على الحدود والمصالح، وكانت هذه الصراعات مرآة لتوترات أعمق في المجتمعات نفسها، موريتانيا، كمجتمع مُتنوع الأعراق والمكونات، لم تكن بمعزل عن هذه الظواهر، فقد شهدت تحولات داخلية أنعكست في خطاب ومواقف بعض المجموعات، مما يجعل الحديث عن الصراعات العرقية والانعكاسات الاجتماعية موضوعًا ذا أهمية بالغة لفهم حاضر الوطن ومستقبله.
منذ أحداث سنة 1989 التي شهدت توتراً عرقياً بين موريتانيا والسنغال، وما رافقها من صدامات داخلية وخارجية، ظلّت جروح تلك المرحلة حاضرة في الذاكرة الوطنية، فقد دفع الموريتانيون في السنغال ثمناً باهظاً من دمائهم وأموالهم وكرامتهم، كما دفع الزنوج الموريتانيون داخل البلاد ثمناً آخر من التهجير والممارسات التي خلّفت آثاراً لا تزال تلقي بظلالها على علاقة المكونات ببعضها البعض، ومع أنّ البلدين نجحَا في تجاوز تلك الأزمة على المستوى الرسمي والخارجي، إلا أن آثارها الداخلية لم تختفي بالكامل، وأصبحت بين الفينة والأخرى تُستَحضر كوسيلة للضغط أو كذخيرة سياسية في معارك الهوية والمطالب
لقد حاولت الدولة الموريتانية عبر مراحل مختلفة معالجة هذه الجراح من خلال التعويض، والاعتراف، وإعادة الحقوق، غير أنّ القضية تحوّلت في أحيان كثيرة إلى “بقرة حلوب” كما يقال، يتم استدعاؤها من قبل بعض الفاعلين السياسيين كوسيلة للحصول على مكاسب إضافية أو موقع تفاوضي أقوى، وغالباً ما تُحمل مجتمع البيظان المسؤولية الكاملة وكأنّه كيان واحد، مُتناسية أنّ المسؤولية الحقيقية تقع على عاتق الدولة ومؤسساتها.
اليوم، نشهد ملامح توتر جديد يتشكل في الخطاب العام، ليس بين موريتانيا وجيرانها، بل داخل النسيج الوطني ذاته، بين البيظان ولحراطين، وقد حمل العقد الماضي خطابات مُتصاعدة من بعض قادة لحراطين، تمحورت حول تحميل البيظان وزر الاختلالات التاريخية والاجتماعية، والدعوة أحياناً إلى المواجهة والتعريض المباشر، بدل صياغة خطاب وطني جامع ينطلق من المظلومية الواقعية نحو حلول بنّاءة تحت مظلة الدولة.
هذا التحول في لغة الخطاب يحمل خطراً كبيراً، لأنه يزرع بذور صراع داخلي يعيدنا إلى أجواء 1989، وربما إلى ما هو أخطر إذا لم نتداركه بالحكمة والتَبصُر.
إنّ كل مجتمع يعيش صراعاً بين “الذاكرة الجمعية” التي تحمل جروح الماضي، وبين “المستقبل المشترك” يحتاج إلى أرضية تعايش ومؤسسات عادلة، فالدول لا تُبنى على استدعاء الأحقاد، بل على تحويل المظالم إلى مشاريع إصلاح، وتحويل الألم إلى طاقة للعمل المشترك، وعليه، فإنّ أي مظلمة يجب أن تُوجَّه إلى الدولة باعتبارها الكيان الضامن للحقوق، لا إلى مُكونْ بعينه، لأنّ تحميل المكونات مسؤولية التاريخ لا يزيد إلا من هشاشة الوطن وإنتاج مظالم جديدة
إنّ موريتانيا وهي على أبواب مرحلة اقتصادية جديدة، مع إستخراج الغاز وتصديره، أحوج ما تكون إلى تماسكها ووحدتها الوطنية، فالثروات الكبرى إمّا أن تكون لعنة تُضاعف الإنقسامات، أو نِعْمة تُعيد توزيع الأمل وتبني جسور العدالة الاجتماعية، والأمر مرهون بمدى قدرتنا على أن نكون مجتمعاً متماسكاً، يتساوى أبناؤه في الحقوق والواجبات، ويثق في أن الدولة هي الحكم العادل والمرجعية الجامعة.
وهنا تبرز شخصية الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني بما عُرف عنه من حكمة وهدوء وطبيعة جامعة، قادرة على تحويل هذه التحديات إلى فرص، وقطع الطريق على المُتسلقين من مختلف الشرائح الذين يحاولون إستغلال مطالب المجتمع ومظالمه كوقود للوصول إلى المناصب والمكاسب، إنّ قدرة الرئيس على نقل هذه المظالم من خانة “الإبتزاز السياسي” إلى مشاريع إصلاحية كبرى تحفظ إستقرار الوطن، وتعيد روح الانسجام والوحدة بين مواطنيه، تضع على عاتقه مسؤولية تاريخية لبناء موريتانيا الجامعة والموحدة والقوية بتنوعها وتعدد أعراقها وألوانها وثقافاتها
ويكتسب هذا الدور بُعدًا إضافياً من خلال البرنامج الاجتماعي الذي أطلقه فخامة الرئيس، والذي يصلح أن يكون نواة حقيقية لبداية القضاء على كل المظلوميات الاجتماعية، فهذا البرنامج، بما يحمله من دعم مباشر للفئات المتعففة، وتوزيعات نقدية لصالح الأسر الضعيفة ، وتأمين صحي مجاني، ومدرسة جمهورية موحدة، وبرامج تآزر، وتدخلات وزارة الشؤون الاجتماعية والبلديات والمجالس الجهوية، يكرّس حضور الدولة الإنساني في حياة مواطنيها، وهو ما يجعل من هذه المبادرات الاجتماعية رافعة فعلية لبناء الثقة بين الدولة والمجتمع، وإعادة ترميم العقد الاجتماعي على أساس العدالة والمساواة
لكن هذه العدالة الاجتماعية لا يجب أن تقتصر على البعد الخدمي أو الإنساني، بل ينبغي أن تشمل المال العام وموارد الدولة، وفُرص الوصول إلى المناصب والوظائف والصفقات والعقارات، والعدالة أمام القضاء، بحيث لا يُستغل نفوذ الدولة ولا تُسخّر سلطتها لصالح جهة أو شخص على حساب جهة أخرى، هذه هي العدالة الحقيقية التي تُذيب الفوارق وتُعيد للدولة هيبتها ومكانتها كمرجع جامع لا يظلم ولا يُحابِي ولا يُجاملْ
على الدولة الموريتانية، والمثقفون والفاعلين الاجتماعيين، والفقهاء والعلماء ورجال الفكر والأدب والفن والسياسة والاعلام، أن ينهضوا بمسؤولياتهم التاريخية من أجل بناء دولة وطنية جامعة، لا مكان فيها لتصنيفات اللون أو الأصل أو الفئة، دولة تُعلي من شأن العدالة الاجتماعية، وتبني الثقة بين أبنائها، وتحوّل مطالب المظلومية إلى مسارات إصلاح ومشاريع إنصافْ، بعيداً عن منطق الاستغلال السياسي أو الابتزاز
وعلى المجتمع، بكل مكوناته وخصوصا الشباب، أن يدرك أنّ الوطن أكبر من صراعات اللحظة، فموريتانيا ليست مُلكاً لِمكونْ دون آخر، بل هي أمَانة بين أيدي الجميع، وإذا خسرنا وحدتنا، فلن ينفعنا غاز ولا ذهب ولا أي ثروة أخرى، لأن الوحدة الوطنية ليست شعاراً، بل شرطا وجوديا لبقاء الدولة نفسها.
إنّ الطريق إلى الأمام ليس عسيراً ولا مُستحيلاً إذا صدقتْ النيات: حوار وطني صادق، إعتراف متبادل بالحقوق والواجبات، توزيع عادل للفرص، ونبذ كل خطاب يزرع الكراهية أو يثير الأحقاد، حينها فقط يمكن لموريتانيا أن تدخل عصر الغاز بثقة، وتبني إقتصاداً قوياً، ودولة عادلة، ومجتمعاً متماسكاً يليق بتاريخها وموقعها، وتعدد أعراقها وتنوعها الثقافي والاجتماعي.
حفظ الله موريتانيا.