شكل الاعتداء الإرهابي الذي نفذته الجماعة السلفية للدعوة والقتال على حامية لمغيطي سنة 2005، الذي استشهد فيه ضابط و16 من افرادنا، أول احتكاك بين جيشنا والإرهابيين.
وبعد الحادثة نظم الجيش حملة عسكرية لمعاقبة وملاحقة الجماعة السلفية بقيادة بلمختار بلعور في شمال مالي. وقد توقفت الحملة بعد سقوط نظام معاوية ولد الطايع.
وفي الحقيقة، لم تكن القوات المسلحة الموريتانية في تلك الفترة إلى غاية 2010، مهياة لخوض الحرب ضد الإرهابيين، نظرا لتدني الوسائل والتنظيم والانتشار.
وقد تعرضت البلاد في هذه الفترة لسلسلة من الاعتداءات الإرهابية مثل الهجوم الإرهابي على دورية للجيش في بلدة تورين شرق ازويرات سنة 2008، واستشهد خلاله 12 من جنودنا وحادثة مقتل أربعة سياح فرنسيين قرب مدينة الاك سنة 2009.
وفي سنة 2010، تحسن أداء القوات المسلحة وتطورت وسائلها، وفيها انتهت موريتانيا من وضع اللمسات الاخيرة على مقاربتها الوطنية الشاملة لمكافحة الإرهاب.
وفي هذه السنة بدأ الجيش يتصدى للقوة الإرهابية المعادية والتي كانت تتمثل أساسا في كتيبة الملثمين، وذلك في عقر دارها بشمال مالي. وقد بلا الجيش بلاء حسنا في معركة حاسي سيدي في منطقة تمبكتو سنة 2010، ثم حقق نجاحا تكتيكيا معتبرا في سيطرته على غابة واكادو على حدود مالي سنة 2011.
مع سقوط نظام القذافي، تدفقت اسلحة كثيرة من ليبيا إلى شمال مالي وفي مارس 2012، سيطر المتمردون الطوارق على مناطق شمال مالي الثلاث كيدال وغاو ثم تمبكتو، ومع حلفائهم المرتبطين بتنظيم “القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي”، أخذوا يزحفون على باماكو العاصمة. وفي يناير 2013، قامت فرنسا بعملية “سرفال” الجوية لوقف تقدمهم والقضاء على قوتهم، وتحول إسم العملية لاحقا إلى “برخان” بعدما أصبح لها بعد بري، تسانده قوات من غرب أفريقيا.
خلال هذه الأحداث الدراماتيكية، التزمت موريتانيا الحياد ولم تشارك مع الفرنسيين، وحافظت على علاقة مع الجانب الفرنسي وحلفائه الأفارقة بشكل معلن وفي نفس الوقت استمرت التفاهمات غير المعلنة مع المتمردين والجهاديين.
وفي سنة 2014، تم إنشاء منظمة تضم دول الساحل الخمس، موريتانيا ومالي وبوركينا فاسو وتشاد والنيجر ، دعت إليها موريتانيا، من أجل التعاون الدولي والاقليمي ومكافحة الإرهاب. وقامت الدول الأعضاء بتشكيل قوات مشتركة، تعمل على الميدان إلى جانب القوات الفرنسية والأممية (مينوسما). وقد جعلت مركز قيادتها في مدينة “سيفاري” بولاية “موبتي” في وسط مالي.
ومع وصول ايمانويل ماكرون للسلطة في فرنسا في مايو 2017، ارتكب أخطاء كانت لها انعكاسات سلبية في منطقة الساحل، فقد اتخذ موقفا متشددا ضد المسلمين في فرنسا، مما ولًّد في نفوس سكان دول الساحل كراهية لفرنسا خاصة على وقع الانتهاكات التي تقوم بها القوات الفرنسية ضد المواطنين بإسم محاربة الإرهاب، وانتشار مشاعر نفور لدى المواطنين من القوات الفرنسية بسبب الماضي الاستعماري ودعااية الحركات الجهادية.
وفي أبريل 2021، توفي الرئيس تشادي إدريس دبي المنتخب للمرة السادسة، على أثر محاولة اغتيال تعرض لها على جبهة القتال، فدعمت فرنسا تولي نجله الجنرال محمد السلطة بعده، وأرسل ماكرون مبعوثا عنه لحفل التنصيب الذي غابت عنه مفوضية الاتحاد الأفريقي، التي عارضت إجراء الانتخابات التي نظمت بالمناسبة، لأنها تخالف توصياتها بعدم ترشح المجلس الانتقالي. وقد شجع هذا الانقلاب المبطن للجنرال محمد دبي، العقيد عاصيمي كويتا للقيام بالانقلاب الثاني في مالي سنة 2021، والذي قطع الطريق أمام إعادة النظام الديموقراطي في البلاد، كما شجع على وقوع انقلابين بعد ذلك في بوركينا فاسو سنة 2022، وفي النيجر سنة 2023. وبدلا من احتواء هذه الاحداث، أبدت فرنسا عداء شديدا للأنظمة العسكرية الجديدة وضغطت عليها بقوة دوليا واوروبيا وافريقيا، فتقوت الدول الثلاث بروسيا وطردت فرنسا بشكل مهين.
غادرت القوات الفرنسية الأراضي المالية وغادرتها قوات “الإيكواس” وكذلك قوات الأمم المتحدة (المنيسما) والقوة الموحدة لمجموعة الدول الخمس وقوة “مبادرة أكرا”، وكل ذلك بطلب وضغط من المجالس العسكرية.
وبذلك خلا للحركات المتمردة الجو، وزاد الوضع دراماتيكية بانسحاب الحكومة المالية من الاتفاقية التي ابرمتها مع حركات التمرد في ازواد برعاية الجزائر.
ولملء فراغ القوات الدولية استجلبت الأنظمة العسكرية مرتزقة فاغنر الروس، الذين فشلوا فشلا ذريعا ولم ينجحوا الا في ترويع المدنيين العزل في مالي وفي القرى الموريتانية على الحدود. وبعد انسحابهم في يونيو الماضي، لم يتحسن الوضع رغم تغيير تسمية القوة الروسية وجعلها تابعة لوزارة الدفاع في الكرملين.
اما التحالف الذي انشاته مالي وبوركينافاسو والنيجر وأطلقت عليه اسم تحالف الساحل، فلم يستطع انشاء قوة موحدة، واحتفظت كل دولة بقواتها على أرضها لمواجهة الإرهاب، فلكل منها شأن يغنيها.
وفي هذه الظرفية طلع نجم حركة ماسينا، القوة الأولى في تنظيم القاعدة في المغرب العربي والساحل، والتي اسسها الزعيم الديني حمادو كوفا في عام 2015. وقد صار حضورها القوي اليوم يشكل تهديدا لمالي ولباقي دول المنطقة، وتتبع الحركة ل”جماعة نصرة الإسلام والمسلمين” بقيادة”إياد أغ غالي”.
وتتبنى حركة ماسينا المنهج الجهادي عند القاعدة والخطاب العرقي الذي يرفع شعار رفع مظلومية قومية الفلان في أفريقيا الغربية، وإعادة انشاء مملكة ماسينا التي قامت في القرن ال19 في وسط مالي. وقد تم تشكيلها في البداية من قبائل الفلان في وسط مالي ثم انضم الآلاف من الشبان الفلانيين إلى فروعها في مالي وبوركينافاسو والنيجر، واتسع انتشارها ليشمل كوت ديفوار وتوغو.
وفي الحقيقة أصبحت الحركة تشكل تحديا أمنيا كبيرا بالنسبة لموريتانيا، وقد سبَّبت لها مشاكل مزعجة.
وتنتهج في الوقت الحالي إستراتيجية هدفها السيطرة مع حلفائها من جماعة النصرة على المنطقة المحصورة بين مالي وموريتانيا والسنغال، لخنق النظام في باماكو وقطع إمدادات البلاد خاصة من المحروقات القادمة من ميناء نواكشوط (1400 كلم) على مستوى منطقة نيور، والقادمة من ميناء دكار (1300 كلم) على مستوى منطقة خاي. وقد شكل هذا الحصار الاقتصادي كارثة بالنسبة للسلطات في باماكو، لا سيما ان المنطقة الواقعة بين حدود مالي والنيجر وبوركينافاسو أصبحت منذ تحت سيطرة كتائب القاعدة والدولة الإسلامية.
وفي يوليو الماضي قامت حركة ماسينا بهجوم على بلدة كوكي الزمال وبلدات حدودية في ولاية الحوض الغربي واحرقوا منشآت عسكرية مالية باعثين رسالة بأن الحركة ستمنع مرور البضائع من هذه البلدات، وكانت موريتانيا تعلق امالا على معبر كوكي لزيادة التبادل التجاري مع دول المنطقة.
وفي بداية الشهر المنصرم، حاصرت الحركة مدينة نيور التي يوجد فيها الشريف محمدو ولد الشيخ حماه الله، شيخ الطريقة الحموية واستولوا على ثلاث سيارات تابعة لحضرته، وسببت الحادثة ضجة كبيرة.
ومنذ أيام وقعت اشتباكات دامية بين جبهة ماسينا وأفراد من قبيلة أولاد محمد “أهل تيكي”، بعد خلافات متجددة حول فرض “الزكاة” على المزارعين والمنمين.
وتنذر الحادثة بنشوب صراع بين البيظان والفلان في ظل التوتر الشديد الذي يخيم على القرية والقرى المجاورة.
ويمكن وصف الوضعية القائمة بانها مقلقة ومزعجة بالنسبة للسلطات الموريتانية.
فهذه السلطات لا تريد مجابهة مسلحة مفتوحة مع حركة ماسينا وحلفائها من القاعدة، الا إذا أصبح الأمر لا مناص منه، ثم إن المواجهة مع ماسينا تحديدا، قد تركب موجتها تنظيمات متطرفة من الفلان مثل حركة افلام رغم فرانكفونيتها، كما أنها قد تحيي النزعة القتالية لدى بعض القبائل في الحوضين.
لقد تعرضت موريتانيا لاضرار مؤلمة بسبب الحرب في مالي، فقد سادت حالة رهيبة من انعدام الأمن على مستوى الحدود، ودخل إلى البلاد عشرات الآلاف من المهاجرين الماليين، مسببين عبئا اقتصاديا ضاغطا على الدولة، وتضرر عدد كبير من المواطنين الذين كانوا يزاولون بعض النشاطات الاقتصادية في مالي، وتم غلق المنافذ الحدودية التي ظلت تمثل شرايين اقتصادية هامة بالنسبة للبلد..الخ.
ومن جهة، ما فتىء النظام العسكري في مالي يتصرف برعونة وخشونة مع الدول المعنية بالنزاع ومع بلادنا تحديدا.
فبعدما ضغط على فرنسا والأمم المتحدة لسحب القوات التي كانت تساعده في مكافحة الإرهاب، اتخذ مواقف استفزازية ضد جارته القوية في الشمال، الجزائر.
ومن حين لآخر يقوم بتحدى موريتانيا، من خلال بعض المواقف المستفزة، رغم ما قدمته له من مساندة ومؤازرة، ومن هذه المواقف مثلا، إغلاق محلات التجار الموريتانيين ومنع الانتجاع في منطقة نيور، وانتهاكاته مع المرتزقة الروس في بعض القرى الموريتانية على الحدود.
وقد اصبح هذا النظام يلفظ اليوم أنفاسه الأخيرة، فاغلب المناطق خرجت عن سيطرته من كل الجهات، ولم يبق للدولة وجود فعلي الا في باماكو، وأصبحت حالته تشبه حالة نظام بشار الاسد في اخر أيامه. وقام مؤخرا بحظر النشاط الحزبي في البلاد واصبح الجنرال عاصيمي رئيسا بدون انتخابات، وقد زاد ذلك من حدة الانسداد السياسي الموجود اصلا، اما عزلته الدولية فقد بلغت ذروتها.
ولكن سقوط هذا النظام يطرح مشكلة إقليمية وعالمية وبالنسبةلموريتانيا خاصة؛ وصار وجود شبه دولة افضل من عدمه، وفي حالة انهيار السلطة المركزية، ستتحول البلاد إلى صومال ثان وربما أسوأ وأخطر منه.
وبرايي أنه يمكن للعرب والطوارق السيطرة على إقليم ازواد، ويمكن لفلان ماسينا السيطرة على بعض المناطق في الوسط، ولكن لا يمكن لأي منهما السيطرة التامة على البلاد، نظرا لعدة اعتبارات، ومنها الاعتبار الديموغرافي، فالفلان مثلا لا تزيد نسبتهم على 13% من سكان البلاد، واعتبار ان القوى الدولية متكالبة على البلد بسبب معادنه وموقعه الجغرافي الحساس، وتتحكم في مصيره.
وبالنسبة لي شخصيا، ارى انه لا بد للسلطات الموريتانية من التعامل الذكي مع الوضع، نظرا لحساسيته وخطورته. فليس لديها قوة عسكرية تفرض بها ارادتها داخل مالي، خصوصا فيما يتعلق بالأحداث التي تقع على الحدود، وليس من مصلحتها الدخول في مواجهة مسلحة مع الكتائب الجهادية التي تستخدم حرب العصابات، من أجل دعم قوة الجيش المالي لاستتباب الأمور.
ولكن بالمقابل يجب على الدولة ان تحمي الحدود بنشر مواقع عسكرية ثابتة ومتحركة، لمنع التسللات وتأمين دخول المواطنين الموريتانيين النازحين من مالي وكنوع من الردع. وفي نفس الوقت عليها إطلاق مشاريع تنموية في المنطقة لتحسين ظروف المواطنين وكبت محاولات الحركات الجهادية لاستمالتهم.
وقبل ذلك على الشعب الموريتاني ان يعي ان المعركة الماثلة تهدد وجود الأمة واستقرار البلاد، ولا تخص العسكريين وحدهم، بل تتطلب تحضيرا وطنيا استراتيجيا شاملا عل المستوى الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي والاعلامي.
حفظ الله بلادنا من كل شر.
العقيد المتقاعد أحمد سالم ولد لكبيد