في خطوة تنظيمية تحمل أبعادًا إدارية وأمنية مُهمة و عميقة، أطلقت وزارة الداخلية واللامركزية عملية إحصاء شامل لجميع عُمالها، الرسميين منهم والعقدويين، هذه العملية، التي قد يراها البعض مُجرد إجراء روتيني، تعكس في الواقع توجهًا استراتيجيًا نحو تحديث الإدارة ، وتعزيز الشفافية وضبط الموارد البشرية بما يخدم المرفق العمومي ويحقق الهدف المطلوب.
عملية الإحصاء هذه ليست مُجرد جمع معلومات، بقدر ماهي أداة لبناء قاعدة بيانات دقيقة تُمكن الوزارة من معرفة المسار الإداري والمالي والاجتماعي لموظفيها، وتُتيح لها التخطيط بشكل مُحكم، سواء تعلق الأمر بالتوزيع الجغرافي للعمال، أو بترقية الكفاءات، أو حتى بمعالجة حالات النقص والفائض.
ورغم أن هذا الإجراء في جوهره يُعتبر عملية روتينية سنوية دأبت الوزارة على القيام بها في إطار ضبط مواردها البشرية، إلا أنّ الجديد هذه المرة هو تداوله على نطاق واسع في منصات التواصل الاجتماعي، حيث تحوّل من إجراء إداري داخلي إلى موضوع نقاش عمومي أثار تفاعلات متفاوتة بين مستغربٍ للسؤال عن الانتماء القبلي، ومتفهمٍ له في سياقه الوطني والإداري.
إن الإدارة الحديثة لا تُدار بالحدسْ ولا بالإفتراضات، وإنما بالمُعطيات الدقيقة، وهو ما تسعى هذه العملية إلى تجسيده والوصول إليه.
ولأن وزارة الداخلية هي الجهاز السيادي الذي يضطلع بمسؤولية ضبط الأمن وتسيير الشأن العمومي، فإن الحاجة إلى المعلومة الدقيقة تتجاوز البعد الإداري لتشمل البُعد الأمني، فمن دون ملفات فردية مُكتملة وبيانات موثوقة، يصعب على أي جهاز رسمي أن يُحقق الانضباط والثقة، وهما أساس العمل في المؤسسات الحَساسة.
ومع ذلك فإن المُلفتْ والمُثير للبعض في هذا الإحصاء هو إدراج سؤال عن الإنتماء القبلي، وهو سؤال قد يبدو للبعض غريبًا في زمن المواطنة والدولة الحديثة، لكنه في الحقيقة يحمل دلالات إدارية وسوسيولوجية لا يمكن إنكارها في السياق الموريتاني، فالمجتمع الموريتاني ما يزال، واقعًا، قائماً على بنيات قبلية واجتماعية راسخة ، و تجاهل هذا المُعطى لا يُلغي وجوده، بل قد يُضعفْ قُدرة الدولة على فهم مُكونات مُجتمعها والتعامل معه.
إذن، لماذا القبيلة؟ الجواب يتضح من خلال ثلاثة مستويات:
أولاً : من الناحية السوسيولوجية : لأن معرفة البنية الاجتماعية لموظفي وزارة الداخلية يساعد على قراءة التوازنات الداخلية، وفهم خارطة الانتماءات في الجهاز العمومي.
ثانيًا: من الناحية الأمنية: لأن هذه المعلومة قد تكون ضرورية في حالات الأزمات المحلية أو النزاعات التقليدية، إذ تُساهم في تفكيك التوترات ومعرفة خصوصيات كل منطقة أو مجموعة.
ثالثًا: من الناحية التاريخية: لأن كثيرًا من الدول تَحتفظ في إحصاءاتها بمعطيات تعكس خصوصياتها المحلية، سواء كانت اللغة أو الطائفة أو الإثنية، وفي السياق الموريتاني تظل القبيلة إحدى هذه الخصوصيات.
غير أن المهم هنا هو ضبط كيفية التعامل مع هذه المعلومة، فالسؤال عن القبيلة لا يجب أن يُفهم كمعيار للتفضيل أو التمييز، بل كمُعطى إحصائي يساعد على الفهم والتخطيط.
إن تحويل القبيلة من أداة تقسيم إلى مُجرد خانة في إستمارة إدارية هو بحد ذاته خُطوة على طريق المواطنة، لأن المعرفة الدقيقة بالواقع هي المدخل إلى تجاوزه نحو بناء دولة المؤسسات.
سياسيًا، يعكس هذا الإحصاء إرادة الدولة في مُواجهة الإنتقادات بالشفافية، والتأكيد على أن الإدارة لن تتطور إلا حين تكون المعلومات مُتاحة وواضحة، وإذا كان البعض يرى في سؤال القبيلة تناقضًا مع مبدأ المواطنة، فإن الحقيقة أنه شكل من أشكال الإعتراف بالواقع الاجتماعي من أجل تجاوزه لا من أجل تكريسه، فالمواطنة لا تُبنى بإنكار التاريخ، بل بإستيعابه وتحويله إلى مُعطيات ومؤشرات للتخطيط.
في النهاية، يمكن القول إن وزارة الداخلية بخطوتها هذه لا تعود إلى الوراء، بقدر ما تُمهد للإنتقال من القبيلة كهوية أولى إلى المواطنة كهوية جامعة، فالموظف يظل مُواطنًا أولاً، والإنتماء القبلي ليس سوى مُعْطى إضافي يُوضع في سياقه الصحيح، وهنا يكمن التحدي الحقيقي: أن تتحول هذه البيانات إلى أداة لبناء إدارة أكثر عدلاً وشفافية، لا إلى وسيلة للتمييز أو الإقصاء والمحسوبية.