تنعقد قمة الدوحة في ظرفية دولية استثنائية، حيث يبدو النظام الدولي ـ الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية ـ أقرب إلى الترهّل منه إلى الاستقرار. نظامٌ صاغه المنتصرون على مقاسهم، وزيّنوه بمؤسسات أممية وشعارات كبرى من قبيل السلم الدولي، وحقوق الإنسان، وسيادة الدول، لكنه ظلّ منذ البداية أداة لتكريس الهيمنة الغربية أكثر مما كان إطاراً لضمان العدالة بين الشعوب.
لقد عرف هذا النظام محطات اهتزاز عديدة: من الحرب الباردة وتداعياتها، إلى تفكك الاتحاد السوفييتي، ثم إلى بروز قوى صاعدة كالصين والهند وتركيا والبرازيل وغيرها. غير أنّ الغرب حافظ على هيمنته شبه المطلقة. ومع ذلك، فإنّ التطورات الأخيرة كشفت حدود قدرته، خصوصاً مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية من جهة، وتصاعد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي إلى مستويات غير مسبوقة من الوحشية من جهة أخرى.
اليوم، لم يعد خافياً أن القيم التي تغنّى بها الغرب لعقود لم تعد ذات شأن حتى لديه. فمصالح شركات السلاح واللوبيات المالية، ومعها التيارات الشعبوية واليمين المتطرف، صارت هي البوصلة الحقيقية للقرار الدولي. بل إنّ ما نراه هو أشبه بانقلاب على النظام الدولي نفسه، تقوده قوى صهيونية وصهيو-مسيحية، تتعامل مع القانون الدولي بوصفه عائقاً ينبغي تجاوزه.
في قلب هذا المشهد، تأتي القضية الفلسطينية كـ بوصلة كاشفة. فهي التي عرّت عجز المؤسسات الدولية، وأحرجت الحكومات الغربية التي تناقض خطابها القيمي مع انحيازها الفجّ لإسرائيل. أما إسرائيل نفسها، فإنها تعيش مأزقاً وجودياً: فهي لا تستطيع إنقاذ مشروعها إلا باستسلام الفلسطينيين، وهو ما لم يحدث ولن يحدث. وكل فشل في كسر إرادة غزة والمقاومة يجعل شبح الأفول التاريخي أقرب.
أما الأنظمة العربية والإسلامية، فقد كانت تاريخياً جزءاً من هندسة المنتصرين بعد الحرب العالمية الثانية، تضبطها حدود وتوازنات وقيود خارجية. واليوم، ومع تشكّل إرهاصات نظام دولي جديد، فإنّ تلك الأنظمة مدعوة إلى مراجعة عميقة: هل تظلّ مجرد أدوات في لعبة الآخرين، أم تتحول إلى أطراف فاعلة في صياغة المرحلة المقبلة؟
قمة الدوحة: فرصة ومسؤولية
إنّ قمة الدوحة لا ينبغي أن تكون مجرّد لقاء بروتوكولي لتجديد المواقف المكرورة، بل فرصة لإعادة تعريف موقع العرب والمسلمين في عالم يتغيّر بسرعة. وإذا كانت فلسطين بوصلة تكشف انهيار النظام الدولي، فإنّها في الوقت ذاته معيار شرعية لكل موقف عربي أو إسلامي.
وعليه، فإنّ أجندة النخب والأنظمة مطالبة بأن ترتكز على:
1. توحيد الموقف تجاه فلسطين، وجعلها قضية مركزية تحدّد صدقية الأنظمة أمام شعوبها وأمام العالم.
2. الانفتاح على القوى الصاعدة (كالصين والهند وتركيا والبرازيل) بشراكات متوازنة، بدل الارتهان الأحادي للغرب.
3. استثمار الثورة الرقمية لتشكيل وتنمية وعي عالمي ضاغط، يعيد تعريف الرواية الفلسطينية في الساحات الدولية.
4. بناء القوة الذاتية داخلياً عبر إصلاح سياسي واقتصادي وثقافي يعيد القرار الوطني إلى موقعه الطبيعي.
إنّ ما يجري في فلسطين اليوم ليس مجرد مأساة إنسانية؛ إنه اختبار لمستقبل النظام الدولي كله. فإما أن يظل العالم أسير منطق القوة الذي يصادر حقوق الشعوب، أو أن يولد نظام جديد أكثر عدلاً. والسؤال الذي يفرض نفسه ونحن على أعتاب قمة الدوحة:
هل يملك العرب والمسلمون شجاعة المشاركة في صياغة هذا المستقبل، أم يكتفون ـ كما في الماضي ـ بدور المتفرج بل والمفعول به وفيه؟