لا تقتصر الهندسة المدنية على كونها ممارسة تقنية تعنى بالبناء والعمران، بل تتحول داخل النصوص الروائية العربية إلى فضاء سردي يختزن الرموز والدلالات.
فالمكان في الرواية ليس مجرد خلفية صامتة للأحداث، بل شخصية فاعلة تشارك في صياغة المعنى، تعكس التحولات، وتؤطر العلاقة بين الإنسان وفضائه.
المدن العربية تحضر في الرواية كما لو أنها شخصيات من لحم ودم.
نجيب محفوظ جعل من القاهرة فضاء روائيا أساسيا في الثلاثية، حيث تتجاور الأحياء القديمة والطرقات الضيقة والمباني التقليدية في جدلية مع تحولات المجتمع.
المكان هنا ليس زينة، بل شاهد على تبدل الزمن.
وفي المغرب، يقدم محمد شكري في الخبز الحافي مدينة طنجة كفضاء عمراني يختلط فيه البؤس بالعمران الاستعماري، فيكشف التناقضات بين الحداثة الوافدة والفقر المتجذر.
تتحول المنشآت الهندسية في النصوص الروائية إلى رموز تحمل دلالات متعددة:
الجسور ترمز إلى العبور والتحولات، كما في رواية الجسر لعبد الكريم غلاب (المغرب)، حيث يصبح الجسر صورة للتحرر والانتقال من واقع قديم إلى أفق جديد.
الطرق في رواية الطريق لنجيب محفوظ تتخذ بعدا وجوديا، فالطريق ليس ممرا ماديا فقط، بل بحثا عن الذات والهوية.
السدود، كما في السد لصنع الله إبراهيم (مصر)، ترمز إلى حلم التحديث وبناء المستقبل، لكنها تكشف في الوقت ذاته عن جدل السلطة والمجتمع.
في مدن الملح لعبد الرحمن منيف (السعودية )، يصبح العمران النفطي الجديد رمزا لولادة مدن هجينة بلا جذور، تشيّد بسرعة لكنها تهدم ذاكرة المكان.
في الرواية الفلسطينية رأيت رام الله لمريد البرغوثي يصبح الفضاء العمراني جزءًا من الصراع مع الاحتلال، حيث الطرقات والمباني تعكس الاغتراب والتهجير.
وفي رواية طابق 99 لجنى فواز الحسن (لبنان)، يطل العمران كحامل لذاكرة الحرب الأهلية، فالمباني المدمرة أو المتصدعة ليست مجرد جدران، بل أرشيف للألم الجمعي.
الحضور الموريتاني يكتسب خصوصية مختلفة، إذ يتأرجح بين فضاء الصحراء الرحب ومحاولة استقرار العمران الحديث.
في رواية الأسماء المتغيرة لأحمدو ولد عبد القادر، نجد أن المدن الموريتانية الناشئة، بطرقاتها غير المكتملة وبناياتها الإسمنتية الحديثة، تعكس صراعا بين الذاكرة البدوية المتنقلة والتمدن القسري الذي تفرضه طبيعة المرحلة.
شخصية المهندس تظهر أحيانا رمزا للحداثة أو الحلم بمستقبل مختلف.
في بعض الروايات العربية، يظهر المهندس بوصفه رمزا للتحديث والعقلانية، مرتبطا بمشاريع الإعمار والتنمية، كما في الروايات التي تناولت مشروعات السد العالي أو التوسع العمراني في القاهرة.
المهندس هنا يمثل الجيل المتعلم الذي يحاول نقل المجتمع من التقليد إلى الحداثة، لكنه يواجه تحديات البيروقراطية أو مقاومة التقاليد.
و يبدو المهندس ايضا مرتبطا بفضاء المدينة، التخطيط العمراني، أو المعمار الذي يتقاطع مع الذاكرة الاستعمارية.
كثيرا ما يصور المهندس في الكثير من النصوص وهو يتأرجح بين إرادة البناء والقيود المفروضة من السلطة أو السوق.
مع الطفرة النفطية، صار المهندس رمزا للنهضة العمرانية، لكنه أيضا تجسيد للاغتراب، حيث نجد مهندسون يعملون في المشاريع الكبرى لكنهم يعانون من فقدان الروح وسط الإسمنت والمال.
المهندس في الرواية ليس مجرد ممارس لمهنة؛ بل هو حامل لمشروع: مشروع بناء وطن، أو جسر بين الماضي والمستقبل، أو حتى تجسيد لصراع داخلي بين الإنسان والآلة.
أحيانا يستعمل كرمز سلبي: البيروقراطي الجامد أو “مهندس الخراب” حين يرتبط بالمشاريع الفاشلة أو العمران غير الإنساني .
تستعير الرواية العربية لغة البناء والهندسة لتشييد استعاراتها الكبرى:
البناء = تأسيس الهوية.
الهدم = محو الذاكرة أو انهيار القيم.
الجدار = العزلة والانقسام.
الجسر = التواصل والعبور نحو الآخر.
هذه الاستعارات تحوّل النص الأدبي إلى “هندسة رمزية”، حيث يمارس الكاتب فعل البناء بالخيال مثلما يمارس المهندس فعل البناء بالحجر.
الهندسة المدنية في الرواية العربية ليست مجرد فضاء مادي، بل تتجاوز وظيفتها التقنية لتصبح أداة جمالية ورمزية.
فمن القاهرة عند محفوظ، إلى طنجة عند شكري، إلى الخليج عند منيف، وفلسطين ولبنان حيث العمران يتقاطع مع الذاكرة السياسية؛ يظهر العمران في الرواية بوصفه شاهدا على التحولات، ومجالا للصراع بين الماضي والمستقبل، بين الثبات والتغيير.
وهكذا تتحول الرواية إلى عمران تخييلي، يبني الكاتب من خلاله مدنا من كلمات، تضاهي صلابة الحجر بمرونة الخيال.