تُعد الهجرة من أقدم الظواهر الإنسانية التي رافقت تطور المجتمعات منذ العصور الأولى، إذ ارتبطت في بداياتها بحاجات الإنسان الأساسية للبحث عن الأمان والغذاء والموارد، أو الهروب من الصراعات المسلحة والكوارث الطبيعية، أو السعي نحو فرص حياة أفضل. وقد تنوعت أشكالها بين الهجرة الداخلية داخل حدود الدولة، والهجرة الخارجية التي تتجاوز حدود الأوطان، مرورًا بالهجرة الطوعية والاضطرارية.
ومع تسارع العولمة، وتنامي الأزمات الاقتصادية والسياسية والبيئية في العقود الأخيرة، أصبحت الهجرة قضية مركزية على جدول الاهتمامات الدولية، تتقاطع فيها الأبعاد الإنسانية المتمثلة في حماية حياة وكرامة المهاجرين واللاجئين، مع الأبعاد القانونية المرتبطة بتنظيم الدخول والإقامة وضمان الحقوق، إضافة إلى الأبعاد السياسية التي تشمل الأمن القومي، والسيادة الوطنية، وإدارة الحدود.
كما تفرض الهجرة تحديات معقدة على الدول والمجتمعات، سواء من حيث دمج المهاجرين في النسيج الاجتماعي والثقافي، أو من حيث مواجهة الآثار الاقتصادية المزدوجة التي قد تتمثل في نقص الأيدي العاملة في بلدان المنشأ، أو الضغط على البنية التحتية والخدمات العامة في بلدان الاستقبال. وإلى جانب ذلك، تثير هذه الظاهرة إشكاليات أخلاقية وإنسانية، خاصة عند التعامل مع الفئات الأكثر هشاشة مثل الأطفال والنساء وضحايا الاتجار بالبشر.
ونظرا لتشعب الأبعاد الإنسانية للهجرة، لا ينبغي اعتبارها انتقالًا جغرافيًا فحسب، بل مسارًا وجوديًا تتقاطع فيه الكرامة والهوية والفرص والمخاطر، ويتأرجح بين الاختيار والاضطرار، ومن أجل فهمها إنسانيًا، يلزم النظر إليها كرحلة متعدّدة المراحل (قبل الهجرة، أثناءها، وبعد الاستقرار) وكظاهرة أسرية–مجتمعية لا كقرار فردي معزول.
ومن أجل فهم أعمق للهجرة، يمكن النظر إليها من جوانب ودوافع تتجاوز البحث عن تحسين المستوى الاقتصادي:
• البحث عن حياة كريمة: يتداخل حافز تحسين الدخل مع السعي إلى خدمات أساسية لائقة (تعليم، صحة، سكن) والانتقال من الهشاشة إلى الأمان الاجتماعي. كثيرون يهاجرون لزيادة القدرة على التخطيط للمستقبل لا لرفع الدخل المادي فقط.
• الهروب من العنف والاضطهاد والكوارث: تتحول الهجرة إلى إستراتيجية نجاة حين تنهار الضمانات الأساسية: الأمن، سيادة القانون، الحريات، أو البيئة المعيشية (جفاف، فيضانات).
• تحقيق الذات ورأس المال البشري: طلب التعليم العالي والاعتراف بالمؤهلات أو الانخراط في منظومات ابتكار وريادة أعمال قد لا تتاح محليًا.
• شبكات القرابة والجاليات: وجود قريبٍ أو جاليةٍ سابقة يقلّل كلفة المخاطرة ويحوّل القرار الفردي إلى مسار عائلي–مجتمعي.
تمر الهجرة بعدة مراحل، لكل منها ما يميزها حسب دولة المنشأ ووجهة المهاجر وحسب الوسيلة والمسار:
• ما قبل الرحيل: مفاضلة مؤلمة بين البقاء والمغادرة، بيع أصول، ديون، ترتيب حضانة الأطفال أو مرافقتهم، وتفاوض داخل الأسرة حول من يرحل أولًا.
• أثناء العبور: تفاوت كبير في الخبرات—من انتقال منتظم إلى مسارات خطِرة عبر حدود وممرات بحرية، وما يتخللها من ابتزاز واستغلال. الدعم العابر للحدود (تحويلات لحظية، تعليمات الملاحة، اتصال رقمي) قد يُنقذ الأرواح أو يُضلِّلها.
• بعد الوصول: بداية جديدة محكومة بعقود عمل، سكن مؤقت، أوراق إقامة، وسعيٍ لتثبيت الوضع القانوني. هنا تتبلور مسارات اندماج أو تهميش.
وللهجرة أثرها الخاص على نفسية المهاجر، تبدأ بفراق الأسرة، الحداد على المكان، وشعور “الاقتلاع” قد يخلِّف قلقًا واكتئابًا واضطرابات ما بعد الصدمة، حسب قدرة المهاجر على التكيف وبناء شبكات دعم، طقوس مجتمعية بديلة، تعلُّم اللغة، واستحضار الرموز الثقافية لتثبيت الشعور بالجدوى.
لا يُرسِل المهاجرون المال فقط؛ بل ينقلون قيمًا ومهارات وأنماط استهلاك ومعرفة تقنية، وهو ما يُسمّى التحويلات الاجتماعية، كما أن الجاليات تنظّم مبادرات خيرية واستثمارية وتؤثر في الصورة الدولية لبلدانها الأصلية وفي المقابل، قد تنشأ توترات مع مجتمعات الاستقبال إذا غابت سياسات ناجعة للإدماج.
يحكم الهجرة مزيج من القوانين الوطنية والاتفاقيات الدولية، أبرزها:
• اتفاقية اللاجئين 1951 وبروتوكول 1967 (عدم الإعادة القسرية.
• اتفاقيات العمل الدولية 97، 143، 189 وحماية حقوق العمال المهاجرين (1990).
• بروتوكولات الأمم المتحدة 2000 لمكافحة التهريب والاتجار.
• قانون البحار، واتفاقيات عديمي الجنسية1954، 1961.
• أطر مرجعية غير ملزمة مثل الميثاق العالمي للهجرة (2018).
هذا فضلا عن الاتفاقيات الثنائية والقوانين المحلية المتعلقة بتنظيم تدفق المهاجرين.
تصنيفات الهجرة:
• نظامية: وفق تأشيرات وتصاريح أو عبر اللجوء المعترف به.
• غير نظامية: دون سند قانوني مع وجوب احترام الحقوق.
• لاجئون وطالبو لجوء: حماية خاصة.
• عمال مهاجرون: بحقوق عمل لائقة.
التزامات الدول
• دول الأصل: توفير بدائل للهجرة القسرية، حماية قنصلية، وضبط وكالات التوظيف.
• دول العبور: إنقاذ، حماية، وتعاون ضد الشبكات الإجرامية.
• دول المقصد: مسارات دخول شفافة، إجراءات لجوء عادلة، بدائل للاحتجاز، وحماية من التمييز.
ومن أجل إعطاء صورة مكتملة للقارئ الموريتاني وغيره عن الهجرة بأبعادها المختلفة، لا بد من التطرق لإيجابياتها وسلبياتها بالنسبة للدولة الموريتانية. من إيجابيات الهجرة بالنسبة إلى موريتانيا:
1. التحويلات المالية
o مساهمة الجاليات الموريتانية بالخارج في دعم الأسر وتحريك الاقتصاد المحلي.
2. نقل الخبرات والمعارف
o اكتساب المهاجرين مهارات تقنية وإدارية وثقافية جديدة تعود بالنفع عند العودة أو عبر التواصل مع الوطن.
3. تعزيز العلاقات الدولية
o الجاليات تعمل كجسور للتعاون التجاري والثقافي مع دول الإقامة.
4. تنويع مصادر الدخل
o الحد من البطالة الداخلية عبر استيعاب جزء من اليد العاملة في الخارج.
لكن في المقابل، فإن للهجرة سلبيات لا بد من ذكرها:
1. هجرة الكفاءات
o فقدان الأطباء والمهندسين والكوادر المؤهلة، مما يضعف قطاعات حيوية.
2. التأثير على التركيبة السكانية
o انخفاض نسبة الشباب النشطين في سوق العمل المحلي، كما أن التسيير غير المحكم للمهاجرين الوافدين قد يحدث خللا خطيرا في النسيج الاجتماعي والتركة السكانية للبلد.
3. ضغوط على البنية التحتية والخدمات
o في حالة الهجرة الوافدة إلى موريتانيا مثلا (لاجئون أو مهاجرون)، قد تزداد الضغوط على الصحة والتعليم والسكن، مما يؤثر سلبا على توفير ظروف عيش كريم للمواطنين الأصليين.
4. التحديات الأمنية والحدودية
o مخاطر التهريب والهجرة غير النظامية التي تمر عبر الأراضي الموريتانية.
5. التأثير الاجتماعي والثقافي
o التأثير السلبي للثقافات الدخيلة، وظهور فجوات قيمية يصعب التحكم فيها.
الهجرة بالنسبة لموريتانيا هي ظاهرة ذات وجهين:
• وجه إيجابي إذا أُديرت عبر سياسات قانونية واضحة تحترم البعد الإنساني وتستفيد من القدرات الاقتصادية والثقافية للمهاجرين.
• وجه سلبي إذا تركت بلا تنظيم، مما قد يؤدي إلى ضغوط على الخدمات، وتوترات اجتماعية، ومخاطر أمنية.
التحدي الأكبر يكمن في الموازنة بين البعد الإنساني، الذي يفرض التضامن وحماية الحقوق، والبعد القانوني الذي يضمن سيادة الدولة وتنظيم تدفقات الهجرة بما يخدم التنمية والاستقرار.