كانت الجالية الموريتانية في قطر تقترب، لأول مرة منذ سنوات، من أن ترى في سفارتها أكثر من مبنى رسمي بارد؛ كادت تجد فيها بيتًا مفتوحًا، لا نادٍ مغلقًا. وذلك بفضل قائم بأعمال أعقبه سفير، حاولا أن يكونا متزنين ونزيهين، حيث حمل كل منهما رؤية خدمية لا استعراضية، ومدّ الجسور مع الجميع دون استثناء، فساهم الأول منهما، بإصرار ومسؤولية، في الإشراف على إنشاء أول مكتب للجالية، في خطوة لم يكن الطريق إليها سهلا، لكن الرجل امتلك ما يكفي من الصبر، والنَفَس الطويل، لتمرير ما كان يُراد له أن يُجهض قبل أن يولد.
ثم جاء الثاني وتعامل مع الوضع القائم برُقي ونزاهة، لم يُعادِ أحدًا، ولم يسعَ لتفكيك ما بُني، بل ساند المكتب وتصرّف كدبلوماسي يُدرك أن الجالية ليست خصمًا، بل شريكًا طبيعيًا في صورة البلد. فكانت تلك المرحلة رغم قصرها ثرية ومختلفة، شعرت فيها الجالية، ولو لبرهة، أن صوتها لا يُقصى، وأن وجودها لا يُختزل .
ولأننا في زمن المفارقات، لم يطل بنا العهد. فدخل علينا “البَدل الأعور”، يرفع شعار “سفير للجميع”، ويتصرف بعقلية الإقصاء. حديث عهد بالتمثيل، يحاول التذاكي على جالية نخبوية، بعضُ رموزها تغرّبوا قبل أن يولد. فالسفارة، وإن بدت مفتوحة للجميع من حيث الشكل، إلا أنها جُيّرت في الواقع لاجتماعات وتنسيقات حزبية لصالح حزب الإنصاف، تُنظَّم تحت ستار الأنشطة الرسمية (مثالها الصارخ تجسد في لقاء الرئيس”، وتُدار بروح الاستقطاب والتوجيه الخفي. فلا لقاء يُعقد إلا ويُرفق برسائل غير مباشرة، وضغوط ناعمة، ومحاولات لتكييف المواقف مع الولاء السياسي المطلوب. بل بلغ به الأمر استخدام الهاتف الرسمي للسفارة للاتصال بعدد من أبناء الجالية وتعبئتهم صراحةً لصالح الحزب الحاكم، في سابقة تمس حياد المؤسسة، وتحول المرفق الدبلوماسي إلى أداة ضغط حزبي، وكأن الدولة باتت تابعة للحزب، والجالية مادة خام لإعادة هندسة الولاءات. وهو بذلك لا يمارس الدبلوماسية، بل يُتقن فن التوجيه السياسي المقنّع، في قاعة يفترض أن تكون عنوانًا للتمثيل الوطني، لا غرفة عمليات حزبية مغلقة.
وإذا كان سعادة السفير يظن أن التاريخ يبدأ من لحظة دخوله إلى المشهد، فهذه مشكلة وعي لا يُعالجها سوى واقع يُعيد كل شيء إلى حجمه الطبيعي. والواقع يقول: الجالية ترى، وتفهم، ولن تسكت طويلًا.